فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وإِذا رأيْتهُمْ تُعْجِبُك أجْسامُهُمْ} أي هيئاتهم ومناظرهم.
{وإِن يقولواْ تسْمعْ لِقولهِمْ} يعني عبد الله بن أُبيّ.
قال ابن عباس: كان عبد الله بن أُبيّ وسِيما جسيما صبيحا ذلِق اللسان، فإذا قال سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم مقالته.
وصفه الله بتمام الصورة وحسن الإبانة.
وقال الكلبي: المراد ابن أُبيّ وجدّ بن قيس ومُعتِّب بن قُشير، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة.
وفي صحيح مسلم: وقوله: {كأنّهُمْ خُشُبٌ مُّسنّدةٌ} قال: كانوا رجالا أجمل شيء كأنهم خشب مسندةٌ، شبههم بخُشب مسنّدة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون، أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام.
وقيل: شبههم بالخُشُب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها.
وقرأ قنْبُل وأبو عمرو والكسائي {خُشْبٌ} بإسكان الشين. وهي قراءة البراء بن عازب واختيار ابي عبيد، لأن واحدتها خشبة.
كما تقول: بدنة وبُدْن، وليس في اللغة فعلة يجمع على فُعُل.
ويلزم من ثقلها أن تقول: البُدُن، فتقرأ {والبُدُن}.
وذكر اليزيدي أنه جماع الخشباء، كقوله عز وجل: {وحدائِق غُلْبا} [عبس: 30] واحدتها حديقة غلباء.
وقرأ الباقون بالتثقيل وهي رواية البزّي عن ابن كثِير وعيّاش عن أبي عمرو، وأكثر الروايات عن عاصم.
واختاره أبو حاتم، كأنه جمع خِشاب وخُشُب، نحو ثمرة وثِمار وثُمُر.
وإن شئت جمعت خشبة على خشب كما قالوا: بدنة وبدن وبدن.
وقد رُوي عن ابن المسيب فتح الخاء والشين في {خُشُب}.
قال سِيبويه: خشبة وخُشُب، مثل بدنة وبدن.
قال: ومثله بغير هاء أسد وأُسْد ووثن ووُثْن.
وتقرأ {خُشُب} وهو جمع الجمع، خشبة وخِشاب وخُشُب، مثل ثمرة وثمار وثُمُر.
والإسناد الإمالة، تقول: أسندت الشيء أي أملته.
و{مُسنّدة} للتكثير؛ أي استندوا إلى الأيمان بحقن دمائهم.
قوله تعالى: {يحْسبُون كُلّ صيْحةٍ عليْهِمْ هُمُ العدو} أي كل أهل صيحة عليهم هم العدّو.
ف {هم العدُوّ} في موضع المفعول الثاني؛ على أن الكلام لا ضمير فيه.
يصفهم بالجُبْن والخور.
قال مقاتل والسُّدي: أي إذا نادى منادٍ في العسكر أن انفلتت دابة أو أُنشِدت ضالّة ظنوا أنهم المرادون؛ لما في قلوبهم من الرعب.
كما قال الشاعر وهو الأخطل:
مازلت تحسب كل شيء بعدهم ** خيلا تكُرّ عليهمُ ورجالا

وقيل: {يحْسبُون كُلّ صيْحةٍ عليْهِمْ هُمُ العدو} كلام ضميره فيه لا يفتقر إلى ما بعد؛ وتقديره: يحسبون كلّ صيحة عليهم أنهم قد فُطن بهم وعُلم بنفاقهم؛ لأن للرِّيبة خوفا ثم استأنف الله خطاب نبيّه صلى الله عليه وسلم فقال: {هُمُ العدو} وهذا معنى قول الضحاك وقيل: يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم؛ فهم أبدا وجِلون من أن يُنزل الله فيهم أمرا يبيح به دماءهم، ويهتك به أستارهم.
وفي هذا المعنى قول الشاعر:
فلو أنها عصْفورةٌ لحسبتُها ** مُسوّمة تدْعُو عُبيدا وأزْنما

بطن من بني يرْبُوع.
ثم وصفهم الله بقوله: {هُمُ العدو فاحذرهم} حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم.
وفي قوله تعالى: {فاحذرهم} وجهان: أحدهما فاحذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم.
الثاني فاحذر مُمايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك.
{قاتلهُمُ الله} أي لعنهم الله؛ قاله ابن عباس وأبو مالك.
وهي كلمة ذمّ وتوبيخ.
وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره! فيضعونه موضع التعجب.
وقيل: معنى {قاتلهُمُ الله} أي أحلهم محلّ من قاتله عدوٌ قاهر؛ لأن الله تعالى قاهر لكل معاند. حكاه ابن عيسى.
{أنّى يُؤْفكُون} أي يكذبون؛ قاله ابن عباس.
قتادة: معناه يعدلون عن الحق.
الحسن: معناه يصرفون عن الرشد.
وقيل: معناه كيف تضلّ عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل؛ وهو من الإفك وهو الصرف.
و{أنّى} بمعنى كيف؛ وقد تقدم.
قوله تعالى: {وإِذا قِيل لهُمْ تعالوْاْ يسْتغْفِرْ لكُمْ رسُولُ الله}
لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا: افتضحتم بالنفاق فتوبوا إلى رسول الله من النفاق، واطلبوا أن يستغفر لكم.
فلوّوْا رءوسهم؛ أي حرّكوها استهزاء وإباء؛ قاله ابن عباس.
وعنه أنه كان لعبد الله بن أبيّ موقف في كل سبب يحض على طاعة الله وطاعة رسوله؛ فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليك غضبان، فأتِه يستغفر لك؛ فأبى وقال: لا أذهب إليه.
وسبب نزول هذه الآيات: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم غزا بني المُصطلِق على ماء يقال له (المُريْسِيع) من ناحية (قُديد) إلى الساحل، فازدحم أجير لعمر يقال له: (جهْجاه) مع حليف لعبد الله بن أُبيّ يقال له: (سِنان) على ماء (بالمُشلِّل)، فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سِنان بالأنصار؛ فلطم جهجاه سنانا فقال عبد الله بن أُبيّ: أوقد فعلوها! والله ما مثلُنا ومثلُهم إلا كما قال الاول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجنّ الأعزُّ يعني أُبيّا الأذل؛ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم.
ثم قال لقومه: كُفُّوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عنده حتى ينفضوا ويتركوه.
فقال زيد بن أرْقم وهو من رهط عبد الله أنت والله الذليل المُنتقص في قومك؛ ومحمد صلى الله عليه وسلم في عِزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبدا.
فقال عبد الله: اسكت إنما كنت ألعب.
فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله؛ فأقسم بالله ما فعل ولا قال؛ فعذره النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال زيد: فوجدت في نفسي ولامني الناس؛ فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله.
فقيل لعبد الله: قد نزلت فيك آيات شديدة فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك؛ فألوى برأسه، فنزلت الآيات.
خرّجه البخاري ومسلم والترمذي بمعناه، وقد تقدم أول السورة.
وقيل: {يسْتغْفِرْ لكُمْ} يستتبكم من النفاق؛ لأن التوبة استغفار.
{ورأيْتهُمْ يصُدُّون وهُم مُّسْتكْبِرُون} أي يعرضون عن الرسول متكبرين عن الإيمان.
وقرأ نافع {لووْا} بالتخفيف، وشدد الباقون؛ واختاره أبو عبيد وقال: هو فعل لجماعة.
النحاس: وغلط في هذا؛ لأنه نزل في عبد الله بن أُبيّ لما قيل له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّك رأسه استهزاء.
فإن قيل: كيف أخبر عنه بفعل الجماعة؟ قيل له: العرب تفعل هذا إذا كنّت عن الإنسان.
أنشد سِيبويه لحسان:
ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتُم ** وفينا رسولٌ عنده الوحْي واضِعُهْ

وإنما خاطب حسّان ابن الأبيرق في شيء سرقه بمكة.
وقصته مشهورة.
وقد يجوز أن يخبر عنه وعمن فعل فعله.
وقيل: قال ابن أُبيّ لما لوى رأسه: أمرتموني أن أومِن فقد آمنت، وأن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت؛ فما بقي إلا أن أسجد لمحمد!.
قوله تعالى: {سواءٌ عليْهِمْ أسْتغْفرْت لهُمْ أمْ لمْ تسْتغْفِرْ لهُمْ} يعني كل ذلك سواء، لا ينفع استغفارك شيئا؛ لأن الله لا يغفر لهم.
نظيره: {سواءٌ عليْهِمْ أأنذرْتهُمْ أمْ لمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُون} [البقرة: 6]، {سواءٌ عليْنآ أوعظْت أمْ لمْ تكُنْ مِّن الواعظين} [الشعراء: 136].
وقد تقدم.
{إِنّ الله لا يهْدِي القوم الفاسقين} أي من سبق في علم الله أنه يموت فاسقا. اهـ.

.قال الألوسي:

{وإِذا رأيْتهُمْ تُعْجِبُك أجسامهم}
لصباحتها وتناسب أعضائها {وإِن يقولواْ تسْمعْ لِقولهِمْ} لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم، وكان ابن أبيّ جسيما فصيحا يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أمثاله كالجد بن قيس ومعتب بن قشير فكان عليه الصلاة والسلام ومن معه يعجبون من هياكلهم ويسمعون لكلامهم، والخطاب قيل: لكل من يصلح له وأيد بقراءة عكرمة وعطية العوفي يسمع بالياء التحتية والبناء للمفعول، وقيل: لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، وهذا أبلغ على ما في الكشف لأن أجسامهم إذا أعجبته صلى الله عليه وسلم فأولى أن تعجب غيره؛ وكذا السماع لقولهم، وليوافق قوله تعالى: {إِذا جاءك} [المنافقون: 1] والسماع مضمن معنى الإصغاء فليست اللام زائدة، وقوله تعالى: {كأنّهُمْ خُشُبٌ مُّسنّدةٌ} كلام مستأنف لذمهم لا محل له من الاعراب؛ وجوز أن يكون في حيز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم كأنهم الخ؛ والكلام مستأنف أيضا، وأنت تعلم أن الكلام صالح للاستئناف من غير تقدير فلا حاجة إليه، وقيل: هو في حيز النصب على الحال من الضمير المجرور في {لِقولهِمْ} أي تسمع لما يقولون مشبهين بخشب مسندة كما في قوله:
فقلت: عسى أن تبصريني كأنما ** بنى حوالي الأسود الحوادر

وتعقب بأن الحالية تفيد أن السماع لقولهم لأنهم كالخشب المسندة وليس كذلك، و{خُشُبٌ} جمع خشبة كثمرة وثمر، والمراد به ما هو المعروف شبهوا في جلوسهم مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين فيها وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن الفائدة لأن الخشب تكون مسندة إذا لم تكن في بناء أو دعامة بشيء آخر، وجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم، وفي مثلهم قال الشاعر:
لا يخدعنك اللحى ولا الصور ** تسعة أعشار من ترى بقر

تراهم كالسحاب منتشرا ** وليس فيها لطالب مطر

في شجر السرو منهم شبه ** له رواء وماله ثمر

وقرأ البراء بن عازب، والنحويان، وابن كثير {خُشُبٌ} بإسكان الشين تخفيف {خشب} المضمون، ونظيره بدنة وبدن.
وقيل: جمع خشباء، كحمر، وحمراء، وهي الخشبة التي نخر جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم لنفاقهم، وعن اليزيدي حمل قراءة الجمهور بالضم على ذلك، وتعقب بأن فعلاء لا يجمع على فعل بضمتين، ومنه يعلم ضعف القيل إذ الأصل توافق القراآت.
وقرأ ابن عباس، وابن المسيب، وابن جبير {خُشُبٌ} بفتحتين كمدرة ومدر وهو اسم جنس على ما في البحر، ووصفه بالمؤنث كما في قوله تعالى: {أعْجازُ نخْلٍ خاوِيةٍ} [الحاقة: 7] {يحْسبُون كُلّ صيْحةٍ عليْهِمْ} أي واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم وهلعهم فكانوا كما قال مقاتل: متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحا بأي وجه كان طارت عقولهم وظنوا ذلك إيقاعا بهم، وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل الله عز وجل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم؛ ومنه أخذ جرير قوله يخاطب الأخطل:
مازلت تحسب كل شيء بعدهم ** خيلا تكر عليهم ورجالا

وكذا المتنبي قوله:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم ** إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

والوقف على {عليْهِمْ} الواقع مفعولا ثانيا ليحسبون وهو وقف تام كما في الكواشي، وعليه كلام الواحدي، وقوله تعالى: {هُمُ العدو} استئناف أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعدى الأعادي العدو المداجى الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوى ككثير من أبناء الزمان {فاحذرهم} لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترن بظاهرهم، وجوز الزمخشري كون {عليْهِمْ} صلة {صيْحةٍ} و{هُمُ العدو} والمفعول الثاني ليحسبون كما لو طرح الضمير على معنى أنهم يحسبون الصيحة نفس العدو، وكان الظاهر عليه هو أو هي العدو لكنه أتى بضمير العقلاء المجموع لمراعاة معنى الخبر أعني العدو بناءا على أنه يكون جمعا ومفردا وهو هنا جمع، وفيه أنه تخريج متكلف بعيد جدا لا حاجة إليه وإن كان المعنى عليه لا يخلو عن بلاغة ولطف، ومع ذلك لا بساعد عليه ترتب {فاحذرهم} لأن التحذير منهم يقتضي وصفهم بالعداوة لا بالجبن {قاتلهم الله} أي لعنهم وطردهم فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها، وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عز وجل وغاية نكاله جل وعلا في الدنيا والآخرة، والكلام دعاء وطلب من ذاته سبحانه أن يلعنهم ويطردهم من رحمته تعالى، وهو من أسلوب التجريد فلا يكون من إقامة الظاهر مقام الضمير لأنه يفوت به نضارة الكلام، أو تعليم للمؤمنين أن يدعو عليهم بذلك فهو على معنى قولوا: قاتلهم الله، وجوز أن لا يكونوا من الطلب في شيء بأن يكون المراد أن وقوع اللعن بهم مقرر لابد منه، وذكر بعضهم أن قاتله الله كلمة ذم وتوبيخ، وتستعملها العرب في موضع التعجب من غير قصد إلى لعن، والمشهور تعقيبها بالتعجب نحو قاتله الله ما أشعره، وكذا قوله سبحانه هنا: {قاتلهم الله}.
{إِنّى يُؤْفكُون} وهذا تعجيب من حالهم، أي كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر والضلال؟ فأني ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده، وجوز ابن عطية كونه ظرفا لقاتلهم وليس هناك استفهام، وتعقبه أبو حيان بأن {إِنّى} لا تكون لمجرد الظرفية أصلا، فالقول بذلك باطل.
{وإِذا قِيل لهُمْ تعالوْاْ يسْتغْفِرْ لكُمْ رسُولُ الله لوّوْاْ رُءوسهُمْ} أي عطفوها وهو كناية عن التكبر والاعراض على ما قيل؛ وقيل: هو على حقيقته أي حركوها استهزاءا، وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج {ورأيْتهُمْ يصُدُّون} يعرضون عن القائل أو عن الاستغفار {وهُم مُّسْتكْبِرُون} عن ذلك.
روي أنه لما صدق الله تعالى زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبي مقت الناس ابن أبي ولامه المؤمنون من قومه، وقال بعضهم له: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت، وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «تب» فجعل يلوي رأسه فأنزل الله تعالى: {وإِذا قِيل لهُمْ} الخ.
وفي حديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن زيد بعد نقل القصة إلى أن قال: حتى أنزل الله تعالى تصديقي في {إِذا جاءك المنافقون} [المنافقون: 1] ما نصه فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم، فجمع الضمائر: إما على ظاهره، وإما من باب بنو تميم قتلوا فلانا، وإذا على ما مر، و{يسْتغْفِرِ} مجزوم في جواب الأمر، و{رسُولِ الله} فاعل له، والكلام على ما في (البحر) من باب الأعمال لأن {رسُولِ الله} يطلبه عاملان: {يسْتغْفِرِ} و{تعالوْاْ} فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل الأول لكان التركيب تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله، وجملة {يصِدُّون} في موضع الحال، وأتت بالمضارع ليدل على الاستمرار التجددي، ومثلها في الحالية جملة {هُمْ مُّسْتكْبِرُون}.
وقرأ مجاهد ونافع وأهل المدينة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والمفضل وأبان عن عاصم والحسن ويعقوب بخلاف عنهما {لوّوْاْ} بتخفيف الواو، والتشديد في قراءة باقي السبعة للتكثير، ولما نعى سبحانه عليهم إباءهم عن الإتيان ليستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم واستكبارهم أشار عز وجل إلى عدم فائدة الاستغفار لهم لما علم سبحانه من سوء استعدادهم واختيارهم بقوله تعالى: {سواء عليْهِمْ أسْتغْفرْت لهُمْ أمْ لمْ تسْتغْفِرْ لهُمْ}
فهو للتسوية بين الأمرين الاستغفار لهم وعدمه، والمراد الاخبار بعدم الفائدة كما يفصح عنه قوله جل شأنه: {لن يغْفِر الله لهُمْ} وتعليله بقوله تعالى: {إِنّ الله لا يهْدِى القوم الفاسقين} أي الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين لسوء استعدادهم بأنواع القبائح، فإن المغفرة فرع الهداية، والمراد بهؤلاء القوم إما المحدث عنهم بأعيانهم.
والإظهار في مقام الإضمار لبيان غلوهم في الفسق؛ والإشارة إلى علة الحكم أو الجنس وهم داخلون دخولا أوليا، والآية في ابن أبي كسوابقها كما سمعت ولواحقها كما صح وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى، والاستغفار لهم قيل: على تقدير مجيئهم تائبين معتذرين من جناياتهم، وكان ذلك قد اعتبر في جانب الأمر الذي جزم في جوابه الفعل وإلا فمجرد الإتيان لا يظهر كونه سببا للاستغفار، ويومئ إليه قوله صلى الله عليه وسلم في خبر ابن جبير لابن أبي: «تب» وترك الاستغفار على تقدير الإصرار على القبائح والاستكبار وترك الاعتذار وحيث لم يكن منهم توبة لم يكن منه عليه الصلاة والسلام استغفار لهم.
وحكى مكي أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام أي بعدما صدر منهم ما صدر بالتوبة، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت آية براءة {استغفر لهُمْ أوْ لا تسْتغْفِرْ} [التوبة: 80] إلخ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أسمع ربي قد رخص لي فيهم فوالله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم» فنزلت هذه الآية {سواء عليْهِمْ أسْتغْفرْت لهُمْ} إلخ.
وأخرج أيضا عن عروة نحوه وإذا صح هذا لم يتأت القول بأن براءة بأسرها آخر ما نزل ولا ضرورة تدعو لالتزامه إلا إن صح نقل غير قابل للتأويل، ولعل هذه الآية إشارة منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن المراد بالعدد هناك التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا، والآية الأولى فيما اختار نزلت في اللامزين كما سمعت هناك عن ابن عباس وهو الأوفق بالسباق، وهذه نزلت في ابن أبي وأصحابه كما نطقت به الأخبار الصحيحة ويجمع الطائفتين النفاق، ولذا قال صلى الله عليه وسلم ما قال مع اختلاف أعيان الذين نزلتا فيهم، ثم إني لم أقف في شيء مما أعول عليه على أن ابن أبي كان مريضا إذ ذاك، ورأيت في خبر أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين ما يشعر بأنه بعد قوله: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل بأيام قلائل اشتكى واشتد وجعه، وفيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذهب إليه بشفاعة ولده: حاجتي إذا أنا مت أن تشهد غسلي وتكفنني في ثلاثة أثواب من أثوابك وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {ولا تُصلّ على أحدٍ مّنْهُم مّات أبدا ولا تقُمْ على قبْرِهِ} [التوبة: 84] ولا يشكل الاستغفار إن كان قد وقع لأحد من المنافقين بعد نزول ما يفيد كونه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين إذ لا يتعين اندراج كل منهم إلا بتبين أنه بخصوصه من أصحاب الجحيم كأن يموت على ما هو عليه من الكفر والنفاق، وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي ظهر لي بعد كتابة ما كتبت في آية براءة، والمقام بعد محتاج إلى تحقيق فراجع وتأمل والله تعالى ولي التوفيق.
وقرأ أبو جعفر {آستغفرت} بمدة على الهمزة فقيل: هي عوض من همزة الوصل، وهي مثل المدة في قوله تعالى: {قُلْ ما حرّم} [الأنعام: 143] لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ولا يحتاج ذلك في الفعل لأن همزة الوصل فيه مكسورة، وعنه أيضا ضم ميم {عليْهِمْ} إذ أصلها الضم ووصل الهمزة.
وروى معاذ بن معاذ العنبري عن أبي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين، ووصل الهمزة فتسقط في القراءتين واللفظ خبر والمعنى على الاستفهام، وجاء حذف الهمزة ثقة بدلالة {أمْ} عليها كما في قوله:
بسبع رمين الجمر أم بثمان

وقال الزمخشري: قرأ أبو جعفر {آستغفرت} إشباعا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان لا قلبا لهمزة الوصل ألفا كما في {آلسحر} و{آلله}.
وقال أبو جعفر بن القعقاع: بمدة على الهمزة وهي ألف التسوية.
وقرأ أيضا بوصل الألف دون همزة على الخبر، وفي ذلك ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر. اهـ.